قد يحمد احدهم لتحالف “تقدم” أنه بعد 18 شهرًا من انكار الانتهاكات وتبريرها والمماطلة في الاعتراف بها، قد انتبه أخيرًا إلى قضية حماية المدنيين وبدأ يتحدث عنها وعن المناهج اللازمة لتنفيذها. ولكن للأسف، بدلاً من تبني هذا الخطاب كموقف إنساني محايد يعيد بناء جسور تواصلهم مع الشعب الذي ساهمت خيانتهم في تقتيله وتشريده وتعذيبه ونهبه واغتصاب نساءه، أصر تحالف تقدم على استخدام هذه اليافطة الانسانية لخدمة الطرف العسكري الذي يتحالفون معه، تمامًا كما حاولوا من قبل تسخير شعارات الثورة وخطاب التحول المدني الديمقراطي لدعم سرديات مليشيا قوات الدعم السريع في بداية الحرب.
مسعى حماية المدنيين ذو طابع إنساني في المقام الأول، وكان يجب أن يكون شاغل كل مهتم بالشأن العام في السودان منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب. ولكن شغلتهم أطماع تقاسم السلطة عبر حل سريع يكافئ المتحاربين على حربهم ويمنحهم مقعدًا في طاولة السلطة.
هذا الشأن الإنساني لا ينبغي تسييسه أو محاولة استخدامه لترجيح الكفة العسكرية لطرف على الآخر. فهو مطلب متعلق بالمدنيين الذين هم ضحايا هذه الحرب في المقام الأول، مما يجعل من العيب استخدام معاناتهم لخدمة مصلحة أحد طرفيها. وهذا بالتحديد ما يفعله خطاب “تقدم” الذي يكاد فيه الاستخدام السياسي والخدمات المقدمة لمليشيا قوات الدعم السريع عبر العناصر التي حددتها “تقدم” كمنهجها من أجل حماية المدنيين أن يقول “خذوني”.
تناول أعضاء “تقدم” ومن بينهم رئيسها د. عبدالله حمدوك والناطق الرسمي باسمها بكري الجاك عناصر طرحهم لحماية المدنيين بأنها تشمل حظر الطيران، وإنشاء مناطق آمنة وقوات دولية على الأرض لحماية المدنيين. فيما أضاف بكري الجاك الدعوة لإنشاء ثلاثة معسكرات على الحدود مع جنوب السودان ومصر وتشاد لحماية المدنيين. وكلام بكري الأخير محض تُزيد يدخل في باب البلاهة التي لا تستحق مناقشتها.
إنشاء مناطق آمنة هو ما ظلت تنادي به منظمات العمل الإنساني ومراكز الأبحاث المهتمة بالشأن السوداني منذ فترة طويلة. ومنذ ان كانت “تقدم” وأعضاؤها يتداولون التقارير عن أمان الأوضاع في رفاعة، وتعقد قياداتهم اجتماعات تبادل التبريكات و”حمدلة السلامة” مع حميدتي في أديس أبابا للتوقيع على اتفاقات وإعلانات مبادئ. أو لعلها من قبل ذلك عندما كان أعضاء “تقدم” – أو الجبهة المدنية كما كان اسمها في حينها – منخرطين في تزوير وقائع الاغتصابات ونسبتها للطرف الآخر لتخفيف الضغط على الدعم السريع. وبطبيعة الحال، فإن هذه المناطق الآمنة هي آمنة من القتال على الأرض ومن الطيران في نفس الوقت، فالمغزى منها أنها مناطق آمنة من كافة أشكال القتال بحيث تسمح باستمرار شكل من أشكال الحياة الطبيعية في السودان للمدنيين في كافة مناطق البلاد. وقد تم تداول هذا المقترح وتفصيله بشكل يجعله قابلاً للتنفيذ، ولكن “تقدم” تصر على ربطه بمطلب ذو طابع سياسي وعسكري واضح وهو حظر الطيران بما يعقد الوضع كله ويدخل المطالبة بحماية المدنيين واليات تنفيذ ذلك في باب التدافع السياسي. وكما ان هناك حظر طيران بالفعل مفروض على مناطق في دارفور، وبالاضافة الي حظر لتوريد السلاح وهو ما ظلت دولة الامارات تنتهك كل منهما بشكل فاضح من الشهر الاول لاندلاع الحرب دون ان نسمع بغم او ادانة او مطالبة من السادة في تقدم، والان فان مطلب حظر الطيران مدفوع بشكل واضح من دولة الإمارات ولخدمة اجندتها بعد ان اصبحت ترغب بشدة في تقليل التكلفة المتزايدة لإيصال الأسلحة والتشوين والعتاد لمليشيا قوات الدعم السريع عبر تشاد والدول الأخرى. حاولت الإمارات استعمال مطار الجنينة في الأسابيع الماضية ولكن تعذر عليها ذلك بسبب استعمال الجيش السوداني للطيران الحربي. كما أن استعمال الدول المجاورة لإيصال الدعم للمليشيا كان مما ساهم في فضح التورط الإماراتي في حرب السودان، وهو ما وضع الإمارات في موقف محرج دوليًا وإقليميًا. ظلت الطائرات الإماراتية تنتهك المجال الجوي السوداني وتوصل المعونة بشكل متواصل للدعم السريع، ولم نسمع من “تقدم” اعتراضًا ولو خجولًا عن هذا الطيران، بل اندفع بعضهم ومن بينهم رئيس “تقدم” نفسه – الذي يتلقى مرتبه من الإمارات كمدير لأحد مراكزها البحثية – للدفاع عن الإمارات كدولة شقيقة، بينما كان سلاحها يقتل المدنيين السودانيين. فما الذي استجد عليهم ليطالبوا بحظر للطيران؟ ولعلنا نتساءل عما إذا كان هذا المقترح قد وجد مكانه للتنفيذ سابقًا، فماذا كان ليكون مصير المدنيين في قرية ود النورة الذين استباح مرتزقة مليشيا قوات الدعم السريع قريتهم فقتلوا منهم المئات قبل أن يصدهم الطيران الحربي؟ وماذا كان سيحدث للمدنيين في الفاشر إذا لم يشارك الطيران في صد هجمات الدعم السريع التي استمرت لأشهر على المدينة؟ وهل يجد أعضاء “تقدم” أن من المقبول أن يلحقوا بمصير المدنيين في الجنينة؟ ليس من الممكن أن تحدد آليات لحماية المدنيين بدون أن تحدد على الأرض ممن ومن ماذا تريد حمايتهم. وهذه ليست أسئلة يتم التحايل عليها بالاستهبال السياسي والعنتريات الكلامية. بل إجاباتها موجودة في تفاصيل ما يحدث على الأرض، ولا تقبل إجابات على شاكلة ما يقوله عضوكم المؤسس ومستشار المليشيا نصر الدين عبدالباري في اجتماعاته الدبلوماسية لتسويق المليشيا بأن أي خسائر مدنية هي ثمن مقبول للتخلص من الإسلاميين.
إذا كان الأمر متعلقًا بحماية المدنيين، فإن المناطق الآمنة التي تدعي”تقدم” دعم تأسيسها الان كفيلة بذلك، خصوصًا مع إنشاء آليات فعالة لمراقبتها وحمايتها من هجمات الطرفين. وربما كان مطلب حظر الطيران قد يكون مقبولا في الاشهر الاولى من الحرب للحد من انتشار رقعتها، ومنع الطرفين من استعمال الاسلحة ذات القدرة التدميرية الكبيرة، ولكنه وبعد كل الدمار الذي حدث يدخل بشكل مباشر في سياق التدخل في تعديل موازين القوى العسكرية بين الطرفين وتحديد أدوات مواجهة الطرفين لبعضهما البعض، ناهيك عن خدمة أجندة الجهة الخارجية (الإمارات) التي تتولى رعاية وتمويل واحتضان “تقدم” والدعم السريع، وهو ما يقدح في حياد المقترح والجهة المقدمة له ونواياها من خلاله، وهو أمر أصبح من قبيل المفضوح على كل حال.
لا أملك إلا أن أقول للسادة في “تقدم” الذين يدعون تمثيل السودانيين قسرًا ويحاولون احتكار أصواتهم: “عيب… عيب عليكم”. هذا الخلط المتعمد لأجنداتكم السياسية ومحاولتكم تنفيذ تعليمات سادتكم على حساب دماء السودانيين وسلامتهم.
وإن لم تخشوا عواقب أفعالكم، فاختشوا قليلاً…