امتشق الندامى فقادته إلى طريق السلامة .. هذا هو عمر المولود في نيالا حي الوادي في يوم (عيد الام ) ، لجغرافيا المكان ايقاع ولتأريخ الزمان الف كلمة تقال ، فعمر لم يولد في جغرافيا تمثل واحد من الإتجاهات الاربعة للوادي الذي يمد جناحيه محبة وحنان شمال وجنوب ،شرقاً وغرباً ولكن عمر يولد في حي الوادي وسط ، بالضبط في المنتصف فما كان غريباً ان تستقر بوصلة وجدانه في نقطة التعادل ( حبايب ) في كل ارجاء السودان . عمر وُلد في وادي النماء هذا وكأني بدكتور بادي يعنيه حين قال (الوادي الجانا مترقن / مد جناحو الطايل شرقا وغربا/ القبلي بروقو على القلعات يضربن) من هنا جاء عمر مشبع بالجمال رسيان وميقن . اما زمان الحب عند عمر فكان متلازمته التي ولد بها عند تاريخ اختاره العالمين ان يكون عيداً للام في الحادي والعشرين من مارس.
الهدية لا تهدى ولا تباع ولكن عمر باعها نهاراً جهاراً واشترى بثمنها آلة للعزف ودوزنة الايقاع ، باع عمر الهدية الغالية لانه ( أبصر روؤس النبت تصارع تحت الترب/ وحتماً ستطلّ بنور الخصب ونور الحب ) باع عمر جهاز الراديو الذي اهداه له والده بمناسبة نجاح مقيم في دار عمر . دس في اكمامه جنيهات عشرة ، ابتاع تذكرة وأمتطى القطار ووارتجَّ قطار الغرب، كما قال محمد المكي ابراهيم “تمطَّى فى القضبان / وزغاريد فهناك عريس فى الركبان ” ، اشترى آلات الايقاع وقفل راجعاً الي نيالا في قطار الغرب والصبر حيث في الطريق ( الصبر، الصبر، الصبر / الكوخ المائل لا يهوى/ والشجر الذاوى ليس يموت ) ، انتهت الرحلة وعمر عازف مجيد للايقاع ،الذي رشح من وجدان مترع بالجمال الي انامل تنقرش الايقاع فلا تملك الا ان تتمايل طرباً مع ايقاع هاشم صديق الذي وصف به احساسه ذات يوم بانه “حاجة زي نقر الأصابع/ لما ترتاح للموسيقى” وارتاح عمر للموسيقى.
استاذ معتصم في منطقة وسطى من العمر بين تلاميذه والاساتذة اراد للتلميذ عمر ان يغني في حفل وداع دفعته ، وكيف السبيل الي ذلك ودثار عمر تهذيب شديد وحياء بعد جهد جهيد كسر عمر حاجز الخفر واقتحم الغناء بصوت شجئ وطروب فارس لا يشق له غبار ب ( أدر الكأس على العشاق صفواً ومدامة) وصدح بها في ذلك الحفل الندامى( أيها الرافل في مجد من الحسن دواما / ماست الأغصان لما عشقت منك القواما / تتحدى البان ميلاً واعتدالاً وانقساما / وتفوق البدر حسناً وضياءً و وسامة / يا سقيم اللحظ يا من أورث القلب سقاما / ان في تيهك ارهاب وفي الصد انتقاما ) غناها الندامى واجاد فخرج بها لقباً وكنية فاسموه ( عمر الندامى ) ولو تركوا الكنية تمضى لاصبح اسماً علي مسمى وقد تمدد ( الندامى ) في حياة عمر بطول السودان الفسيح وخارجه أيضاً.
في فترة كان فيها سادة الغناء الشعبي محمد احمد عوض وكمال ترباس وعبدالوهاب الصادق ، عبدالله محمد ، ابو عبيدة حسن ، ومحمود علي الحاج بدأ عمر في اقتحام الغناء الشعبي من مركز شباب نيالا ومعه بعض اصدقاء كورس (يشيلون معه ) وردد اغاني اساطين الغناء الشعبي في زمانه وزاد عليها اداء لاغنيات شعبية خاصة به وقام بتلحينها بنفسه . ثم لم يلبث ان دخل الغناء الحديث من فرقة قوامها أيضاً بضع اصدقاء منهم بروف ترنيم في ( الترامبيت ) وسوناتا في الاكورديون ، احمد عثمان التجاني عود ثم كمان وعمر نفسه كان عازف الباص جيتار ثم مال علي العود في الفرقة الموسيقية الرائعة والتي انطلقت من مركز شباب نيالا.
جاء عمر الي الخرطوم بانتاج غنائي خاص به ، بملكة في التلحين لا تُصاهى ، بايقاع داخلي موزون وبدوزنة موسيقى ورهف ( واحرف موسيقي ودندنة ) ، جاء بصوت شجي وشفيق ودخل الاذاعة واجيز الصوت الجميل ذو اللونية الخاصة وبدأ تاريخ الغناء في السودان ببسط صفحة جديدة سطرت بدايات ل فن جيد تسيد ساحته فنان جديد.
في بوابة دار الخرطوم جنوب للغناء (منعوه حراسها ) طلبوا منه الامتثال الي شروط دخول الدار التي كان اساطينها
الكبار : محمد وردي وسيد خليفة وعثمان حسين ، رمضان حسن ورمضان زايد ابراهيم موسي ابا ومصطفي سيداحمد وعبدالمنعم الخالدي ويوسف الموصلي. وطُلب منه ان يجلس لامتحان اجازة الصوت مع ان تلك التي بيمينه شهادة اجازة من لجنة النصوص و هنا امدرمان تفيد باجازة صوته . جلس عمر لامتحان الدار مع زمرة من مجايليه ، فيصل الصحافة الذي غني ( مسكين انا ) وصلاح كوستي الذي غنى مرت الايام وغيرهم من الذين غنوا الحقيبة علي نغم هوي يا ليلى هوي ، الا عمر فانه غنى اغنيته الخاصة (احساس ) ، ليلتها خرج عمر من دار الخرطوم جنوب يحمل شهادة الاجازة ويحمل لقب (احساس ) يحمله يقيناً لانه الفنان الذي قدم بقوة الي الساحة الفنية في السودان . ترك عمر احساس (الندامى ) عند باب الخرطوم جنوب وحمل معه احساس جميل ونبيل ومتفرد.
هوايته القراءة وله في ذلك مكتبة كبيرة ، ثم السباحة التي تعلمها في البرك والسواني ،ومع ذلك كان هو منقذ الراحل المقيم كمال كيلا عندما انزلقت رجله عند حافة حوض السباحة في الجزائر العاصمة ساعة رحلة فنية اليها ،غطس كمال ثم طفأ ثم غطس ثم طفأ وكانت الثالثة التي غطس فيها ولم يطفؤ ،عمر احساس كان يعلم ان في البعثة كثير من ( اولاد البحر )الذين يجيدون السباحة ظاهراً وباطناً ،تأخر الاخرين في نجدة غريق ، حرك فيه كل نوازع الخير والمرؤة والشهامة فقفز كاي بطل للسباحة الي المنطقة الغريقة من الحوض بكامل اناقة هندامه ، وما كان يهمه لان الذي امامه زميل يغرق مضت لحظات عصيبة طفأ بعدها عمر احساس وفي معيته الغريق يدفع به الي حافة الحوض الانيق عندها هرع الجميع يعومون في البر لانتشاله حيث تم اسعافه ،كانت تلك شهامته عمر احساس وذلك كان كمال الذي كلما التقاه هتف في وجهه يا منقذي !! شهامة دفعت به الي فعل كان فرض كفاية اذا قام به احدهم سقط عن الباقين ولكن لان لا احد تقدم ، تقدمت نخوة احساس لان المسألة (لا تنتظر ) كما يقول الاعلان الشهير.
بين ريان وروعة وحفيدات ثلاث ، وبين احمد وأواب وست الكل أُمهم يعيش عمر احساس حياة اسرية سعيدة وسط الاهل والجيران والزملاء والاصدقاء الكثر وبين كل الاصدقاء يظهر ابراهيم سوناتا صديق الطفولة والعُمر ، وعند احساس في الحلة الجديدة وفي جبرة وفي اتحاد الفنانين بام درمان وبدار الخرطوم جنوب ( كل الناس هنا / كل الناس صحاب /كل الناس أهل / والما هُم قراب / قربهم العمل ).
ما ترك عمر احساس الغناء الامدرماني ولكنه توجه الي الغناء المحلي فقدمه موروث ايقاعي ونغمي سوداني اصيل بنغم له هوية وايقاع له لون، لاقى رواجاً كثيراً حتى ان الفنان الجمري قال له انه يدين ل عمر احساس بفتح الباب علي مصرعيه لتقديم الفن المحلي الخاص بمنطقته بعد ان كان اسير اغنيات رمضان حسن .
كانت اغنية احساس التي صاغ كلماتها الشاعر كمال مصطفى وهو اقرب الشعراء لاحساس عمر ، واغنية (احساس) ذاتها هي الثالثة ل عمر ، اذ ان الاولى كانت ( لما تزعل )اخد كلماتها من مجلة الاذاعة والتلفزيون ترنم بها باحساس عالي( لما تزعل مني ياما /بتطير من الشجرة الحمامة / يبقي لون النور رمادي/والشوارع تبقي غادي/ تبقي في عيونا البتهدي/ رعشة الشوق المعدي/لما تزعل مني ياما .. ) ولان شاعرها مجهول بالنسبة له لم يتقدم ب ( لما تزعل ) للاجهزة الفنية ، وعند عمر لا تهدر الحقوق وتصان العهود ، وليس من شيمه ابداً ان (يزعل منه احد).
آخر عمل انجزه عمر احساس اوبريت طويل مدته 22 دقيقة من كلمات الشاعر د. عارف تكنة، سيرى النور قريباً وسيحدث ضجة كبرى تقلب موازين الاعمال الفنية.
كثر هم الشعراء الذي تغنى بكلماتهم احساس منهم التجاني حاج موسى ، عالم عباس .د. يحي حماد فضل الله ، جمال حمدون ، مدني النخلي ، شادية عطا المنان ، ازهري محمد علي ، ابراهيم الدرديري ، محمد يوسف موسى ، خالد شقوري وغيرهم من الشعراء.
شريك عمر احساس في الاغنية المحلية من منطقة دارفور كان هو الشفيف الشاعر د. يحي حماد فضل الله ، عمر احساس اشتهر بتطيب خاطر الناس وغنى لكافة الفرقاء وكان رسولاً للمحبة والسلام وان شئتم الدقة عمر احساس هو زولكم وهو بامتياز (زولي هُوّيْ).