جاءت المتقدمة لوظيفة رفيعة في ادارة الاتصال المؤسسي بكامل اناقتها للمعاينة ، جلست في ثبات وثقة امام مجموعة العمل التي تجري المقابلة . اعتدت في مثل هذا النوع من المقابلات والمعاينات التركيز علي جانب مهم وهو استخلاص كل ما عند المتقدم للوظيفة من مهارات ناعمة تاركاً مهمة استخلاص المهارات الصلدة لباقي اعضاء المجموعة . كنت اطرح اسئلة غير مباشرة تركز علي المعنى والمبنى وسبر اغواره اكثر من الشكل المعرفي للمتقدم . طفقت المتقدمة تجيب علي كل الاسئلة بثقة وثبات، وعندما سألتها عن الايقاعات السودانية . مضت تسرد اسمائها بلا توقف ، النقارة ، المردوم ، التمتم ، الدليب لم تتوقف الا بمقدار التقاط انفسها لتمضي في سرد القائمة الطويلة من الايقاعات الى ان اوقفها سؤالي المباغت ماذا تعرفين عن ايقاع الدقلاش ؟ بسرعة اجابت انا اعرف الاقاشي ولكنني لا اعرف الدقلاش!! ابتسمت وانا اتذكر رد (عبدالله الحيوان ) الذي جاء الي مكتبته من سأله ان يبيعه ملحاً للطعام ، حضر اليه طالب الملح بتحريض من شلة من الاصدقاء جلسوا على مقهى قبالة مكتبة عبدالله ، رد عبدالله على طلب الرجل بقوله (نحن هنا -يا حيوان- نغذي عقول وليس بطون ) !! تذكرت عبدالله الحيوان ابتسمت وقلت لها السؤال هنا يرتبط بالمعاني والوجدان وليس بالشكل وقشور الطعام .
حرصت ايما حرص علي استجلاء دوزنة الايقاع الداخلي للمتقدم لأي وظيفة لقناعتي الراسخة باهمية اتزان الايقاع الداخلي واتساقه واهميته عند التعامل مع اصحاب المصلحة الاخرين وبصورة خاصة مع الزبائن ،وفي حالة وظيفة الاتصال المؤسسي ، حرصت علي طرح اسئلة تتعلق بالايقاعات ذاتها لاستجلاء ذلك الاتزان وما كان السؤال يتعلق بالجانب المعرفي بالايقاعات بقدر ما هي لاستكشاف مقدرات الفطرة والجبلة عند المتقدم للوظيفة على المواءمة مع الظروف المحيطة بالوظيفة واستعداده للتعلم .
التنوع البديع في السودان يشكل تحدياً لاي موظف يعمل في الاتصال المؤسسي ، تنوع في الجغرافيا والتأريخ وفي سماحة النفوس في القيم والقناعات، في الذكاء الفطري والتعامل علي السجية في كل ارجاء السودان ، واي من يعمل في الاتصال المؤسسي ان لم يدرك ذلك ويتسلح بالمعارف والاستعداد للتعامل مع تحدي التنوع البديع حتماً لن يصيب من النجاح ما يجعله قادراً علي القيام بأعباء وظيفته.
ما وجدت في حياتي من هو اقدر وأعمق معرفة بالايقاعات السودانية المتنوعة مثل الفنان القدير الجمري حامد.
الجمري تجاوز المعرفة الي اداء الايقاعات السودانية بثرائها وغني محتواها ، بل وعاشها بقلبه وحواسه وجوانحه.
في لقاء اجراه المقتدر محمد محمود لحساب قناة النيل الازرق مع الفنان الجمري يعود العام 2017، شاهد ماذا قال الجمري عن اللهجات السودانية ؟ حديثه عن لهجة الفلاتة التي يجيدها بذات طريقة نطق الحروف فيها وهو يحكي عن حرص الفلاتة علي الانتاج وتتبع رحلة زملاء له جرياً وراء الرزق ففي سعيهم الحثيث نحو الكسب الحلال تنقلوا بين كسلا والقضارف، خشم القربة والجزيرة، رحلة تطعمهم من جوع وتأمنهم من خوف ، ايقاع حروف اللهجة علي لسان الجمري كان مدوزناً ومضبوطاً علي موجات اثير نفسه السمحة ، ترديد الجمري للمقاطع الجميلة التي تحث علي الانتاج وتبرز مقدرة الفلاتة في المساهمة في دورة الاقتصاد ، رددها الجمري وكأنه يغنى ، بل كان هو بالفعل يغني باللهجة وينطق بحروف الموسيقى فيها .
النيل الازرق بلاد الايقاعات الجميلة والنغم الطروب دراية الجمري بدروب وطرق الايقاعات يجعله دائماً ينطلق الي فضاءات اوسع يحلق في الفضاء الرحيب للوطن، يبصر فيها الصورة الكبرى للوطن ثم يخلص الي ان المردوم الذي هو في قرارة المهتمين بالفن كردفاني صرف يجعل منه الجمري ايقاع كل الوطن ويفترع منه مردوم آخر يضمه الي جوقة ايقاعات النيل الازرق ويجعل منه مردوماً آخر بذات القدرة الفائقة علي التطريب ، فلا تندهش عندما تراه الجمري يذوب في الايقاع وهو يتمايل معه طرباً ويردد ( غنوا المردوم ، دقوا المردوم ).
لم يك تغني الجمري باغنيته ( تعال ودينا للجنينة ) وحدها هي من يشير الي الصورة الكبرى التي ابصرها الجمري من علياء تحليقه فوق طيات سحاب الوطن ،بل تناغمها مع اغنية حروف المحبوبة وصفاتها فهي( عيونا كهرباء الميناء ) وبين الميناء بورتسودان في الشرق الي الجنينة في الغرب تستطيع ان ترى الوطن بعيون الجمري .
وبين الجنينة والميناء ينثر الابداع الذي يؤديه الجمري في ( الشتيلة الفي جدولها).
يجعل الجمري ايقاع الدلوكة اساس لاغنيته بص الرصيرص فات،وقد انشغل قلبه كما تقول الأغنية بثلاث بنات الاولى طالعة للنهار والثانية لفاها الخضار اما الثالثة فهي بلون السمار وجعل الجمري من الثالثة تحديداً رمز للوطن عندما غناها نغم (دي من عزة لبست توب وقار )، تجلت هنا عبقرية الجمري عندما لخص التنوع الباذخ في السودان في ثلاث بنات تنوعت الوانهن ولكن جمعتهن عزة رمز الوطن بثوب من وقار . وكأني به الجمري يستحضر عازة خليل فرح في كل مقاطعها التي تجوب أنحاء الوطن.
الجمري جعل ايقاع آلة (الشَتَمْ) حاضراً في ذات اغنية الثلاث بنات عندما قال ( سمحات رموشن يجرحن/ في قلبي امسن واصبحن/ وا عذابي الليلة / شغلن قلبي لامن باص الرصيرص فات /وا عذابي الليلة / بنغمة من صوت الشَتَمْ / وزي الظبيات يسرحن / وا عذابي الليلة لامن باص الرصيرص فات ).
غني الجمري للمنجل رمز الانتاج والفعل الجميل متتبعاً خطى الامين عبدالغفار الذي تغني للمنجل في الجزيرة وخصاه بتحية وجعله ركيزة لظهر البلد (سلام ياالمنجل المركوز على ضهر البلد تقيات) وكذلك فعل محمد جبارة من كلمات حميد في اغنية نورة التي هجرت المدرسة ثم (ختت الكراس وشالت/ منجلا صالت بو جالت / ساعة انجرحت بو شالت / لي التراب فوق ايدا كالت). فالمنجل برمزيته العالية كان حاضرا في اغنيات النيل الازرق عند الجمري وفي وسط الجزيرة عند الامين عبدالغفار ثم عند محمد جبارة في شمال السودان .
أما نغمات الكماتير عند الجمري في (جننونا بالخضار ) لا ينفك منها الا بمقدار عودته الي (في دار الغربة شاكي وباكي ) او الي نسائم الصباح مع من يحب في (نسايم الصباح زولي رسل شوقا ).
دوزن الجمري ايقاعات الانقسنا ايقاعات القمز ، وايقاعات المابان وايقاعات الكمبلا ، الدلوكة والمردوم ولكنه تميز بايقاع (الكلش) الذي عاصر خروجه من القرية ودخوله المدينة و(الخروج من الغابة) ونسب الجمري ادخال ايقاع الكلش الي المدينة الي العازف رحمة ابراهيم وقال انه اول من جاء بالايقاع الي الرصيرص المدينة في حي البُتابة حي زعماء الهَمَج . اما الجمري نفسه فقد غناه بعد ان انتقل من ايقاع (النقاقير) الي الايقاعات الثلاث. وقد غنى الجمري ( أبا موسى ) علي ايقاع الكلش.
وهط الجمري ايقاع الكلش بين رزنامة الايقاعات السودانية في مكانه المرموق يسير جنباً الي جنب مع الجراري ، الهسيس ، التويا ، ايقاع القوبيب ، إيقاع ال كويت ، إيقاع البأتمتم عند القمز، المردوم والدرملي، الكمبلا، والدليب، ثم إيقاع الدقلاش عند الصوفية والذي كان موضوع معاينة موظف الاتصال المؤسسي في فاتحة هذا المقال.
التحية للفنان الموسوعة الجمري وهو يرفع قواعد الايقاعات في النيل الازرق مكاناً علياً، وهو يجعل من الكلش حجر زاوية الايقاعات كلها محتلاً مكانته التي يستحق .