ابراهيم احمد الحسن
جاء شقيق عبدالمعين الاصغر يبكي بحرقة وقد نعته طفل يلعب معه بانه ماسورة ، وهل وصف شخص بانه ماسورة يُغضب ؟ انا نفسي ماسورة كبيرة ، قال عبدالمعين يواسي من جاءه يبكي من الوصف المريع حسب ما وقع في خلده ، ابتسم الطفل بعد ان كان يبكي ، وهو يسمع عبدالمعين ينعت نفسه بانه ماسورة ، اختلط الضحك مع البكاء في لحظة فاصلة واصدق المشاعر هي التي تنسال عند اللحظات الفاصلة ، هل جربتم لحظات ان تعيشوا تلكم اللحظات ؟ خذ مثلاً اللحظة الفاصلة بين الصحو والنوم هل سمعتم آخر كلمة يتفوه بها نعسان قبل ان يستسلم لسلطان النوم ،هل استمعتم الي نغمتها والنطق بحروفها ، هذا الشخص الذي سكر حد الثمالة بالوسن لا يعدو ان يكون قد عاش اللحظات الفاصلة بين مرحلة وأخرى في تدرج السلسلة التي تسم الاشياء . السكران نفسه يصل المرحلة الصفرية بين الوعى والولوج الي دنيا اللاوعي بعد رشفات من كوؤس عديدة يكبر عددها ويصغر بمدى تحمله وقدرته علي التصدي لخدر المسكر الذي يتسلل الي تلافيف عقله، فيصل به الي المرحلة الصفرية التي يغيب بعدها في دنيا اللاوعي .اللحظات الفاصلة بين الموت والحياة ، هي لحظات قد لا نعرف تفاصيلها لان من عاشها لم يعد ليحكي ويصفها كيف تكون فالموتى عادةً وكما يقولون لا يرون الحكايات . صحيح ان هناك العديد من التجارب والدراسات والبحوث في هذا المضمار الفاصل بين الموت والحياة الا انها تظل مجرد دراسات نظرية معضدة باسانيد علمية. اللحظات الفاصلة التي اعنيها هنا ليست هي اللحظات الحاسمة التي تتطلب الاختيار بين اتخاذ قرار او نقيضه اي اللحظات الفارقة في حياة الانسان .ولكن المقصود هو اللحظات الاخيرة التي تنقل الانسان من حالة الي حالة .
لم يتردد عبدالمعين في وصف نفسه بالماسورة مع ان للمفردة معانيها الصعبة ومدلولاتها السيئة في العرف السوداني ومن خلال ممارسات تجارية خاطئة وغير قانونية والشخص الماسورة يُعرف بانه هو الشخص المحتال النصاب ، الكذاب الاشر ، الإنسان الذي يعمل بلا ضمير أو المرابي الجشع الذي لا يراعي في ممارساته التجارية او غير التجارية إلاً ولا ذمة . عبدالمعين يعلم جيداً تلك المعانى السئية التي تحمل مدلولاتها مفردة ماسورة ولكنه اراد ان يخفف عن شقيقه الصغير عبء المعنى والمدلول وفي نفس الوقت اعطاء الكلمة معاني اجمل. كثير من الجمل والمفردات طاشت معانيها وغابت في اتون معانٍ بعيدة ووسمت بهذه الصفات والتصقت بها واصبحت بلا فكاك .
لا ينسب لساكت كلام ، وهل يصدر الكلام من ساكت ، الاجابة البديهية لا ، ولكن في السودان يكون الكلام ذاته ساكت ، وهي صفة سودانوية خالصة للكلام الذي لا معنى له فعندما يقولون ان هذا ( الكلام ساكت ) فهي قمة الهجاء لثرثرة بكلام بلا منطق يسنده وبلا معنى له مما يِعد ثرثرة بلا فائدة يرجى منها ، جمع السودانيون الكلام مع السكوت في جملة غير منتجة ، جمعوا الاضاد في جملة ثم جعلوا الجملة مثلاً يمشى بين الناس.
اما من (قام قعد ) فمن قاله كان يريد وصف حالة انسان كان واقفاً ثم جلس ، ولم يحسن التعبير فقرن تضاد القيام مع الجلوس في جملة واحدة واصبح القيام مدخل لوصف حالة القعود ومضى الامر هكذا علي علاته ، ورغم انف كل شئ ، اللغة والمنطق ومدلول الكلام فاصبح فلان (قام قعد ).
غير بعيد عن التناقض والاتساق دعونا ننظر في ال حلومر المشروب المفضل في المائدة الرمضانية السودانية وها نحن في هذه الايام بدأنا نتنسم روائح شاردة من هنا وهناك لعمليات اعداد خجولة للمشروب الاشهر في المائدة الرمضانية ، فالمشروب الذي يتم تصنيعه عبر عمليات معقدة وطويلة تمتد الي عدة ايام وله مراسم وطقوس لازمة الاتباع تنتهي بمشروب حلو وله مرارة مستساغة ، وبذلك لا يناقض الحلاوة التي فيه الطعم المُر فهما علي اتساق محبب يعضد احداهما الاخر ويجعله مهضوماً فهو حلوومر .
دعونا نقف قليلاً عند مفردة عجيبة في لهجتين مختلفتين الا وهي مفردة فوت ، فهى باللهجة الشامية تعني أدخل تعال وباللهجة السودانية تعنى اذهب او اخرج ، الشاعر الراحل صلاح احمد ابراهيم في قصيدة الطير المهاجر استخدمها بمعنى اذهب الي واستخدم نقيضها سيب حين قال :(فوت بلاد وسيب بلاد/وإن جيت بلاد/وتلقى فيها النيل/بيلمع في الظلام /زي سيف مجوهر /بالنجوم من غير نظام/تنزل هناك وتحيي/ياطير باحترام/وتقول سلام )، براعة صلاح احمد ابراهيم ظهرت في حشد باذخ لمفردات : فوت ، سيب ، جيت ، تنزل هذه المفردات تعبر عن حالة من التجوال والقلق الجميل حيث حلق الشاعر مع طائر الخريف بلاد بلاد .
عبدالله محمد خير وقف بتأمل العيد في الغربة ومعه المفردة تفوت ويحمل معها المعنى تعدي ويقول :(لكني من أول حرف اجد الأنامل ترتجف / واتذكر العيد المضى/ أعياد تجي وأعياد تفوت/ والفرحة تصحب كل عيد تملا البيوت/وأنا كل ما استقبلت عيد أحيا وأموت)
سيدأحمد الحاردلو عندما رثى مصطفى سيدأحمد استخدم المفردة تفوت دلالة علي الذهاب الابدي ( يعني كان لازم تفوت/وتخلي اوتارك سكوت/ولسة عندنا ريد جديد/ولسة عندنا ليك قصيد/يعني كان لازم تفوت/ وتخلي هذا الحب يموت)
المبدع خالد الباشا زرع مفردة تفوت في نص اجمل قصائده بمعنى تذهب وتغيب حين قال ( أمانة عليك .. تخت بالك على الجواك .. /علي الحلم البنينا بيوت/علي السر الدفنّا كلام .. /تحت وجع الليالي سكوت/أمانة عليك .. قبل ترحل مع الأيام .. /تشيل حلو الأماني تفوت/تدس في بير حواسك ريد … / سقينا وفا وحمينا يموت/ و امانة عليك يظل اسمك حروف من نور /علي حيط الفؤاد مشخوت ) صلاح بن البادية غنى المفردة في فات الاوان بمعنى تعدي وتمر :(كيفن سنين الحب تفوت/ يا داب ظلال أفراحها جات/ وكيف نفترق نقطع صلاتنا/ يوم ما بدت بينا الصلات )
وكمال ترباس غنى المفردة بمعنى تذهب وتختفي في اغنية انت المهم التي نظمها عبدالعال السيد (انت المهم/ الناس جميع ما تهمني/ انت العزيز / افرد شراعك ضمني/خايف تفوت / والسكه بيك ما تلمني ) .
صديق استخدم المفردة بمعنى افارق واذهب بعيد حين غنى (الظروف و الله حكاما/ مصاير وربي قسامها/أفوت أحبابي غير خاطري/أطاوع الدنيا و أحكامها/ حرام يا دنيا)
اما معاجم اللغة فقد عرفت فان بأنه ذَهَبَ وَمَضَى ، وما بين فوت وبمدلولها السوداني البليغ بمعنى اذهب وامضي مما يتوافق مع شرح معاجم اللغة ، تجد ان ذات المعاجم تؤيد استخدامات اللهجة اللبنانية في مفردة فوت بمعنى ادخل حيث تقول : فات في الشيء: دخل فيه.
اذاً عليك بالدخول اذا قيل لك باللهجة اللبنانية فوت وعليك بالذهاب اذا قيل لك باللهجة السودانية فوت . اما اذا تم وصفك بانك ماسورة فلا تبتئس فان عبدالمعين جعل للماسورة معان أجمل وليس فيها ما يدعو للغضب .