عند وصولي أول مرة إلى أرض موسكو الساحرة للدراسة الجامعية كانت درجة الحرارة عشرين درجةً تقريبًا تحت الصفر، كنت أشعر كأنِّي في ثلاجة، أرتجف وترتعش أعصابي من شِدة البرد، أنا القادم من أرضِ النيلين المحازية لخط الاستواء، درجة الحرارة فيها مُلتهِبةٌ تقارب درجة الغليان. حلاوة قدومي إلى موسكو تمثَّلت في ارتفاع طموحاتي الدراسية وتفتُّح عقليتي نحو العالم، اكتسبت مزيدًا من التجارب، اكتشفت ثقافاتٍ وتقاليد أخرى لم أكن أعلمها من قبل، أما عن البرد القارص إلى حد صقيعها، أتذكر أول يوم عند وصولي إلى أصدقائي السودانيين، اقتربت أن أموت من الارتعاش، رد علي أحمد ود أمبدة مازِحا: «والله لو جاء البرد الحقيقي إلا تشيل ليك قداحة تمشي الحمام عشان تبول»، الأمر اللافت للانتباه هنا أنَّ الطلاب السودانيين يتفاخرون بمناطقهم ومسقط رأسهم لا بقبائلهم، يحذفون اسم والدك ينادوك باسم منطقتك استعارًا، مثل: محمد ود الجزيرة.. هيثم ود الصحافة.. مراد ود المزاد.. إلخ، هنا لقَّبوني بعادل ود الحاج يوسف، متى ما اجتمع الطلاب السودانيين أهاجتهم الذكريات والحنين إلى البلد المنكوب. أفكّر طوال الليالي المملة عن شيء يقيني من البرد القارص، تذكَّرت زجاجات الفودكا والوسيكي والجن اللذيذ، المغريات مصفوفةٌ على الثلاجات الشفافة بعناية واهتمام، لكن بطبعي لم يجذبني (الشراب) مطلقًا؛ يُذكِّرني بمأساة خالي العزيز الذي مات غارِقًا في كأس سكرته بنهاية مؤلمة، صدى أمي ما زال يرنّ في أذني: «خالك قتلته الخمرة »، هذه الكراهية امتدت معي منذ الطفولة حتى اليوم، أتذكر كيف كان خالي عطوفًا تجاهي، يُدلِّلني في صغري.
بهرتني موسكو بمبانيها العتيقة ونظافة شوارعها وتقبُّل إنسانها للآخر، لم أشعر بإهانة ولم تُداس كرامتي تحت التراب بسبب زنجيتي، لا أحد ينظر إلى فداحة أنفي الأفطس أو غلاظة شفاهي أو يشمئز من شعري المُجعَّد، هنا الإنسان روحٌ بلا تمييز في مدينةٍ لا دين لها، بطبعي الخجول كنت استحي من بنات المدينة الشقراوات الجميلات كالحور كاشفاتٍ عن سوقهن الممتلئة، أثناء مروري بشارعي المعتاد إلى الجامعة ألحظ اصطفاف الزهور والورود أشكالًا وألوانًا على جانبيه بصورةٍ متناسقة، كنت أقارن منظر الشارع بشارع منزلنا في السودان، أجد المقارنة معدومة تمامًا فأشفِق على حال بلادي. «أجاتا» بنتٌ جميلة، تعاكسني كلما أسير في الشارع، تعُضُّ شفاهها السفلى ثم تمدُّ لسانها، تغمز لي بعينها، أسقِط نظراتي إلى الأرض خجلًا، أسير دون أدنى اهتمام بها، أنا لم أجيد تعلُّم اللغة الروسية بعد لكي أغازِل أو أكوِّن علاقةً عاطفية مع هذه الشقراء الجذابة.
حولًا كاملًا في وسط هذه المدينة التي تضج بكل الملذات والشهوات حافظت على عفتي ولم أشرب كاسًا، كان هذا انجازًا عظيمًا، في عامي الثاني أتى فصل الشتاء وجفَّت الأشجار يابسة، تجمَّدت الأنهار والبحيرات، مدينة كساها الشيب من كثرة الجليد، قابلت للمرة الثانية أجاتا، صارت اللغة تجري بينا كنهرٍ متدفّق، لم تكن تحبني، كانت تنظر إلى ما تحت سروالي كفحلٍ عارم، البنات المشاغبات يعرفن كل شيء عنك من مشيتك في الأرض، لم أشعر بمتعة ودفء الشتاء إلا في ذاك العام مع أجاتا، تأتي إلى غرفتي مطلع كل صباح هي التي هتكت عذريتي ، أتذكر ذا يومٍ وجدتني مع صديقتها في لحظة حميمية، صرخت الخواجية صرخةً بلا مسار حتى اهتزَّت الشبابيك والأبواب، كادت أن تشُقَّ الغرفة إلى نصفين، طردت صديقتها بتنمُّرٍ حتى أنَّها نست علبة السجائر وبعض ملابسها الداخلية في غرفتي، أجاتا تلهثُ أنفاسها من الصدمة، وضعت يديها على خديها فاتحةً فمها الصغير، بعدها هزَّت رأسها بشكلٍ دائري، أعادت ترتيب شعرها الذهبي الطويل، ترجَّتني ألَّا أفعل هذا الشيء مع فتاة أخرى غيرها، قالت لي بلطف: «أنا لها»، ثم اعتذرت على العصبية المُفاجئة، قالت عن صديقتها أنَّها خائنة بعد أن علمت منها وصولها معي أعلى مراتب المتعة والتشويق، انتهزت الفرصة لتجد ضالتها. رغم دخول أجاتا في حياتي لم تشغلني عن دراستي الجامعية، بل تشجِّعني للتفوق، ما زلت على عهدي مثلما وعدت أبي أن أكون طبيبًا مميزًا في المستقبل.
في الجامعة تعاملت مع كل الأجناس بصدقٍ واحترام، بينما كنا وقوفًا في حرم الجامعة برفقة بعض الشباب سلَّم علي صديقي شمعون بالأحضان وداعبني أيها الزنجي الصلب، بينما أدار صديقي الفلسطيني ظهره، تجاهل أن يمد يده إلى شمعون مثل بقية الشباب، سألت رامي الفلسطيني: «لماذا يا صديقي تعمَّدت أن تتجاهل هذا الشاب؟» رد علي بغضب حتى اهتزَّت أرنبة أنفه الطويل قائلًا: «هذا يهودي يا زلمة!».
قلت له: «هو لم يختر نفسه ليكون يهوديًّا، ما دام هذا الشخص صاحب أخلاقٍ رفيعة ما المانع أن تصافحه؟».
رد علي أكثر غضبًأ: «هؤلاء هم من اغتصبوا أرضنا يا خيو!».
اتهمني أنَّه ليس لدي أي ذرة من النخوة العربية، أجبته ببرود: «أنا لست بعربي يا صديقي».
- لكن السودان بلدٌ عربي!
- السودان بلدٌ متعددة الأعراق والسحنات والثقافات، ليس كل سوداني عربي وليس السودان بلدٌ لعرق دون آخر، علينا أن نُفرِّق بين مبادئ الشعوب التي لا تمثل سياسة الحكومات.
- إذًا لماذا تدافعون عن القضية الفلسطينية؟
- ندافع عن القضية الفلسطينية بمنطلق أنَّها قضية إنسانية، نحن أحرارٌ ضد اغتصاب أي أرضٍ حرة في العالم، ثم في المقام الثاني تأتي المشاعر الدينية، لكن في بلادي ألبسوها فستان الهوية الضيقة لشيءٍ في نفس الحكومات المتعاقبة.
اتَّفقت مع رامي أن نقدم دعوة إلى الطلاب اليهود في الداخلية مع خليط مع بعض الجنسيات الأخرى، حتى لا تنكشف حيلتنا تجاهم، الحفل هنا غير مُكلِّف؛ على كل شخص أن يأتي مع صديقته وزجاجة فودكا، لا عليك غير أن تُنهِك جسدك مع صوت الموسيقى الصاخبة بالرقص، أخبرت رامي أنَّ لا شيء لي في الخمر بتاتًا، عندي معه ذكريات مؤلمة، أكَّد لي أيضًا أنَّه لا يعاقر الخمر لكن سوف نأتي بزجاجتين فارغتين من الفودكا، نعبئهما بالماء ونتظاهر للجميع أنَّا سُكارى. أخبرت صديقتي أجاتا أن تستعد للحفل الترفيهي بعد غٍد الخميس، أخبرتها خدعتي أنا ورامي للمدعوين للحفل، أتت ليلة الخميس فاردةً جناحيها، توافد المدعوّون إلى الحفل، لم يعتذر غير (باياكو) الغاني، هذا الصديق يمكن أن يُغيِّر طريق عبادته بسبب امرأة أو أن يبِعك بسبب المال. صديقنا الكوري (جو) أول الوافدين إلى الصالة، هذا الصديق عُرِفت عنه دقة المواعيد حتى في ساعة المجون. حفلٌ بسيط خلا من المظاهر، إلا اثنين من الطلاب العرب اللذين يحبان كثرة الصديقات والتفاخر والتباهي بأثمن الأشياء، بدأ الحفل بعد الترحيب بالجميع من رامي، ثم اندفعوا بحماسٍ مع ترانيم ودقات الموسيقى الحالمة، هوسٌ وجنونٌ وصراخاتٌ تمايلت معها أجساد الحِسان بتناغمٍ مع الأغاني الصاخبة، أظنَّ في هذه الليلة حتى الشيطان خلع جلبابه ورقص معنا مبتهجًا، أحمد ود أمبدة كعادته السيئة حضر قبل نهاية الحفل بقليل مع صديقته الرومانية، انتهى زمن الحفل، كانت من أجمل ليالي موسكو الصاخبة، البعض فقد توازنه بسبب التعاطي الزائد، لو لا الاتكاء على أكتاف الصديقات لسقطوا جميعًا مثل أوراق التوت، أنا ورامي كنا في كامل وعينا نشتُمُ طاولة الحضور، كلهم تعاطوا الفودكا ببراحة، اندهشنا من الطلاب اليهود هم الوحيدين الذين لم يقعوا في الفخ، عبوا زجاجات الفودكا بالمياه مثلنا قبل الحضور.
نظر إليّ صديقي الفلسطيني ساخرًا: «ألم أقل لك أنَّ هؤلاء الأوغاد خبثاء لا ينخدعون!»، انفجرت ضاحكًا حتى أوشكت على السقوط. بعد ثلاث ليالٍ اعترفت لي أجاتا في أحضاني وهي مخمورة، قد سرَّبت الخبر للطلاب اليهود في الداخلية، اعترفت لي أخيرًا أنَّها من أصولٍ يهودية.
القاص إدريس على بابكر