محمود الجيلي ..آه..آه من العيون (3)
ابراهيم احمد الحسن
(1)
يقول الراوي ان الفنان أحمدالطيب خلف الله جاء الي الشيخ شاكياً صداع بنتابه عند بداية كل حفل يحييه، حالما يعتلي المسرح ويبدأ الغناء للناس حتى تبدأ موجات الصداع تداهمه تعتم الرؤية وتعكر جو الحفلة ، يغتم احمد الطيب وقد تملكه الصداع وتمكن منه ولكن -يقول الراوي – بما انه مقدام شجاع وجسور كان يصر علي اكمال الحفل حتى النهاية متحملاً اللآلام المبرحة للصداع ويقال ان الشيخ استمع الي شكواه مطرقاً حتى فرغ ، بذل له من الدعاء ما بذل ، ويقال ان الشيخ هاشم الشيخ عبدالمحمود نورالدائم هو الذي دس في يده قصيدة عصماء، ثم طلب منه ان يبتدر بالقصيدة التي صارت أغنية بعد تلحينها، طلب الشيخ هاشم من احمد الطيب أن يبتدر ويبدأ بها حفلاته فكانت ( آه آه من العيون / عيون تسلم وعيون تألم / عيون تغازل / وعيون تكلم / آه و آه من العيون / عيون تداعب وعيون تلاعب / عيون تحدث وعيون تكاتب/ عيون سميرة وعيون اميرة / وعيون ما بتقدر تعرف ضميرا ) الي ان يقول ( عيون تأمن وعيون تطمن / عيون تواسي وعيون تجنن / عيون تطيب وعين تغيب / وعيون حويتا للشيخ الطيب ) واحياناً (عيون شكيتا للشيخ الطيب )، وهكذا تداخلت الاعين النجل مع العيون التي تصيب ومع ان الاعين التي في طرفها حور تقتل كما قال الشاعر الا ان عيون من يحضرن حفلات الاسطورة احمد الطيب خلف الله كانت تصيبه بالصداع . بعد اغنية العيون هذه كانت درر احمد الطيب تنسال بلا صداع من المخضوب بنانك ، جميل غاية ، درتي الغالية حتى ضاع صبري.
(2)
احمد الطيب بآه من العيون تنحدر أصوله من طابت الشيخ عبدالمحمود ولا غرو ان يشدو بحنين طابت وقد كانت معظم قصائد أغنياته الجياد نسجها ونظم كلماتها علي نول المحبة الشيخ الطيب السماني الشيخ عبدالمحمود مثل اغنية بهي الطلعة، السطع بدره، ومثل درتي الغالية ، اما الشيخ هاشم الذي نظم آه من العيون هو الشيخ هاشم الشيخ عبدالمحمود نورالدائم وهو استاذ الشيخ البرعي الذي قال فيه ( برقاً لمع لي قلبي هاشم / من جهة اللي جده هاشم / ذكرني حال استاذنا هاشم / وابوهم اللي لشريدو هاشم ) ويلتقى محمود الجيلي صلاح الدين السماني مع الشيخ الطيب الشيخ السماني والشيخ هاشم الشيخ عبدالمحمود نور الدائم في الاصل الواحد والشعر الرصين وبالطبع ابناء الراحل الشفيف احمد الطيب ، عماد وعصام وهما غرس الأسرة الطيبية التي تضرب بجذورها عميقاً في أرض طابت فتنبت رياحين وزهور وقصائد واغاني أما الذكر والمديح فما من سحابة ظللت سمائها الا نزلت قطراتها برداً وسلاما على طابت واهلها.
(3)
وعندما يكتب محمود الجيلي وتغني هدي عربي ( يا حبيب هي الريدة ايه لو ما كدة / أيام عمرنا نعيشها جنة مفرهدة/ أنا ما رأيت غيرك مَحَنَّة مؤكدة / أنا ما هويت غير عيونك إنت دا ) عندما يكتب محمود ذلك فإنه يغرف من ذات المعين بل يختزل عيون أحمد الطيب في ( عيونك انت دا ) ، تتنوع العيون عند نبع طابت ، تَسَلِم ، تَألِم ، تغازل ، تكلِم ، تداعِب ، تَلاعِب ، تَحدِث ، تكاتب ، تأمن ، تَطمِن ، تآسي ، تَجنِنْ ، تَجرِّح ، تَفرِّح ، تَطَيب ، تَغيب ويسرح احمد الطيب مع العيون وعندما يغلبه الشجن يشكيها للشيخ الطيب جَدْ محمود الجيلي الذي هو بدوره يأخذ الطريقة من الشيخ وصولجان الشعر من الشيخ الجيلي صلاح الدين ومن جده الشيخ الطيب ومن الشيخ هاشم وهو يرى عيون تَساقِط سحراً وسحراً علي الشفيف احمد الطيب خلف الله ،
(4)
عندها يجلس محمود القرفصاء عند طابت مطمئناً ووجه قلبه المملؤ بشر تجاه النور، اتجاه وضاء المُحيْ ليكتب ( ما هويت غير عيونك انت دا ) . ثم يرنو قائلاً ( شجرك المتني طارح / وانت جامع الريد وطارح / كيف اقول ليك واصارح/ ليك في جواي مطارح ) ، ينفك محمود من معادلات الريد التي تجمع وتطرح أرضاً ، وينظر محمود الجيلي القمر في سماء طابت ويقول ( يا قمرة ما ردتك براي / رادوك معاي كل القلوب الكانوا متلمين زمان / واتبشتنوا!! ويكون من شنو ؟ ) ينصرف محمود عن القمرة هنيهة وهو يتدثر الطيف عز الليل سؤال ملحاح: يكون من شنو ؟، يعاني اعراض المحبة ودلال الحبيب والعجن ، (بشتنة الكانوا متلمين)، يحمل الشوق ووسواس قلب حنين، ينظر وينتظر كسيف الحال،هل من محيص؟ و بجناح مهيض يحث الخُطى الي ديار الحبيب الي بلاد هجرها وما عادت له وطناً ، يسيل دمعه السخين مدراراً ، ينشد ويكتب (ظهر لي طيفه نص الليل واعراض المحبة بدن / شفته جميل خفيف الروح ملاك من فوقه حل بدن / وسوس لي قلبي كتير قال لي بكرة بتحسن / حبيبك لسه مشتاق ليك ودا كان أصلاً دلال وعجن / فرحت ورحت لي بيتو وا أسفاً عليه اسفاً / رحل ساب خلى المحلة خراب وما عادت بلادي وطن / سال دمعي وكتبت حروف علي بابه الملاني شجن / حضرت وعشمي كان القاك !!! / حضرت ولم أجد احداً ) .
(5)
هل يذكرنا ذلك بشخبطة خالد الباشا (أمانة عليك .. قبل ترحل مع الأيام .. /تشيل حلو الأماني تفوت/تدس في بير حواسك ريد … / سقينا وفا وحمينا يموت/ و امانة عليك يظل اسمك حروف من نور /علي حيط الفؤاد مشخوت ) ، فقول محمود يشبه الباشا ثم انه يتماهى مع آمنة خيري عندما تتقمص العين رؤيا الضفة الاخرى ( شنو الوداك تاني؟ وجابك لي تبكي ؟ ) ثم لا تلبث تتمادى في تقريع العين وتقول (تجيني حزينة باكية وشايلة معاك أسية/ ايه أعمل معاك ياعيني إنتي ؟) فالفؤاد عند الباشا وعند محمود الجيلي مشحون بالشجن الشفيف والشوق وعشم اللقيا الذي تبدد وما بقيت منه غير ذكرى علي باب الديار وعلي جُدُر الفؤاد . ثم ان العيون عند آمنة خيري حزينة تبكي تنال حظها من التقريع تلفها الحيرة ( ايه اعمل معاك يا عيني إنتي ؟) فهي تقف في ضفة اخرى غير التي وقف فيها احمد الطيب الفنان عن الشيخ هاشم ، بل تقف في ضفة محمود الجيلي التي صدح فيها وصرح ب ( ما هويت غير عيونك انت دا !! )
(6)
ننفك من مكانٍ ما عاد فيه وطن بفعل عشم جميل بذله محمود الجيلي وعاد منه ب حضرنا ولم نجد أحد ونلوذ بالاسرة الطيبية، نذهب صحبة شاعرنا الكبير الصديق الجميل عمر محمود خالد والذي جده لامه هو الشيخ علي ابن الاستاذ محمد شريف نورالدائم شقيق الشاعر النحرير محمد سعيد العباسي، الدكتور عمر كان يطوي الديار ويَجَمِّلها ليقول مثل هذا الشعر ( القمرة وكتين طولت روحنا ليها بنسألها / القمرة وكتين اختفت مشينا ليها نسائلها/ قلنالها ليه يعني الغياب؟ ساعة الظلام ايه طولها / قالت خلاص بي ارضكم ما لي صلة / وانا اصله بشتاق للعيون البي الطبيعة مكحلة ).
يجود محمود بساعة كانت أحلى من العمر كله ليغنيها شُكرالله ، ثم يغنى له معتز صباحي الناس معادن ، وفي مفترق الطرق في الحياة يكتب ولو طريق لماني بيك ليغنيها حسين الصادق ثم الحب هادا والتي شدت بها هُدى عربي وتميزت أشعاره الغنائية بجمال المفردات والاخيلة وسطعت في سماء السودان نجوم زواهر توزعت بين المغنين الشباب تتلألأ بين اغنياتهم.. اما أشعار ريحة البن سيد الاسم فهي موضوع الحلقة القادمة. محتشدة باشعار البرنامج البن وعبقه .. وهكذا تتراءى العيون في اشعار محمود واشعار جده الشيخ هاشم والشفيف احمد الطيب والصديق الدكتور عمر محمود خالد ، يراها الاول عيونك انت دا !! ويصدح بها احمد الطيب بآهة طويلة ممدودة آه وآه من العيون !! اما دكتور عمر محمود خالد فينظرها وينتظر أوبتها طبيعي مكحلة .