في وقت مبكر من فجر ١٥ ديسمبر ٢٠٢٣، بدأت قوات مليشيا الدعم السريع هجومها على ولاية الجزيرة، التي تقع جنوب العاصمة الخرطوم، ومحاولة اقتحام عاصمتها ود مدني من الجهة الشرقية. وكانت المليشيا قد تمددت بقواتها جنوبا على مدى الاسابيع الماضية، بعد ما يبدو ان طرفي القتال قد يئسا من حسم معركة الخرطوم التي تحولت بشكل حرفي الي مدينة اشباح، تسيطر الدعم السريع على شوارعها واحيائها بينما يتحصن الجيش داخل المعسكرات التي تبقت له، اما سكان المدينة، فتوزعوا بين الذين هجروا منازلهم ونزحوا الي مناطق أخرى او الذين لا يزالون تحت سطوة حصار المليشيا، لا حول لهم ولا قوة.
منذ اندلاع الحرب، وانفجار موجة النزوح التي اخذت بأكثر من ثلثي سكان العاصمة الذين يقارب تعدادهم الثمانية ملايين نسمة، احتضنت ولاية الجزيرة وحاضرتها ود مدني مئات الالاف من النازحين الذين تشردوا من ديارهم في الخرطوم. بشكل رئيسي، كان ذلك بسبب قربها الجغرافي من الخرطوم حيث تقع على بعد ١٨٦ كيلومتر جنوب شرق العاصمة، وهي ايضا المدينة الحضرية الثانية في البلاد بعد الخرطوم نسبة لارتباطها بشبكة طرق معبدة مع معظم اصقاع البلاد الاخرى واهمها الطريق الرئيسي السريع الذي يربطها بميناء بورتسودان عبر مدينتي القضارف وكسلا بمسافة قدرها ٩٥٠ كيلومتر، ذلك غير ارتباطها بشبكة طرق معبدة تمتد الي سنار وكوستي والابيض جنوبا وغربا. وتتوفر فيها شبكة خدمات وبنية تحتية معقولة نسبياً بسبب وجود عدد من الأنشطة الصناعية -وخصوصا في مجال الصناعات الغذائية- في الولاية، والتي ظلت لفترة طويلة تحتضن اكبر مشروع زراعي في السودان، واكبر مشروع ري انسيابي في العالم (مشروع الجزيرة). وكما انها المدينة التي تحتضن أكبر عدد من دور إيواء النازحين حالياً في السودان.
أصبحت ولاية الجزيرة وعاصمتها مدني مركزا لغالبية عمليات الإغاثة الإنسانية المحلية والدولية. فعلى سبيل المثال، تم نقل وتخزين اغلب لقاحات تطعيم الاطفال الي مدينة ود مدني بعد ان قامت المليشيا باجتياح الخرطوم، وهو الامر الذي سيعرقل بشكل مباشر تطعيم ١.٤ مليون طفل تحت سن الواحدة بالاضافة الي انه سيعطل حملة تطعيم تستهدف تحصين ١٥.٥ مليون طفل من الحصبة الالمانية في مختلف انحاء البلاد. بالاضافة الي ذلك، انتقل اغلب المراكز العلاجية التخصصية مثل المركز القومي لعلاج الاورام، ومركز جراحة وعلاج امراض القلب والمركز القومي للنزيف المعوي، وغيرها الي مدينة ود مدني وولاية الجزيرة. كل هذا ذهب به هجوم المليشيا على ود مدني ادراج الرياح. كذلك فان مدني تعتبر حالياً المركز الاساسي للتخزين والامداد الدوائي لبقية البلاد بعد احتلال المليشيا لمخازن الصندوق القومي للامدادات الطبية في الخرطوم، خصوصا للادوية التي تحتاج الي تبريد مثل الانسولين لمرضى السكري والاوكسيتوسين المستخدم في تسهيل الولادات المتعسرة والسيطرة على نزيف ما بعد الولادة.
منذ بدء سريان اخبار الهجوم على مدني، تدافع سكانها الاصليون والنازحون اليها الي محاولة الخروج منها. اجتاحت المليشيا منطقة رفاعة شرقي المدينة، ثم منطقة حنتوب، وارتكبت فيها ما ارتكبت من فظائع النهب والترهيب. اعادت مليشيا قوات الدعم السريع تكرار شريط نفس المشاهد التي ارتكبتها في الخرطوم وفي الجنينة وفي كل منطقة اجتاحتها قواتها في السودان. اعلنت الوكالات الانسانية ان اكثر من ٣٠٠ الف مواطن قد نزحوا من ود مدني في اليومين الاول لهجوم لمليشيا فيما وصلت الاعداد خلال الايام التي تلتها الي حوالي خمسمئة الف من الذين اصبحوا ضحية غائلات النزوح المتتالية. في ١٩ ديسمبر، منعت مليشيا قوات الدعم السريع، النازحين الذين يحاولون الفرار من مدني من الخروج من المدينة، ودعتهم -في مشهد عبثي ساخر من الواقع- لمواصلة حياتهم بشكل طبيعي. فرضت المليشيا حصارها على مدني وحولتها بشكل فعلي لسجن كبير – اشبه بما صنعه الاسرائليون في غزة- واخذت سكانها رهائن. وثقت تسجيلات الفيديو من مدني اجتياحهم لمزرعة الكنيسة القبطية في شرق مدينة ود مدني. وسجل افراد المليشيا الفيديوهات لانفسهم وهم يحملون مدافعهم الرشاشة، ويحاولون ابتزاز وترهيب رهبان الكنيسة للخروج منهم بكلمة ثناء على قوات الدعم السريع بدون ان ينتبهوا الي حرمانية دخول الكنيسة بالسلاح في الاساس. فيما انتشرت في الاخبار صور نهب البنوك وإحراق مقر بنك السودان المركزي في المدينة.
ارتفع خطاب الفيديو المسجل ونداء الاستغاثة الذي اطلقه السيد رضوان عبدالجبار – احد مسئولي دار رعاية الاطفال فاقدي السند الذي انتقل الي ود مدني بعد اجتياح المليشيا للخرطوم ليأوي حوالي اكثر من مئتين طفل نصفهم من ذوي الاحتياجات الخاصة- شاهداً على حجم الكارثة ومدى الرعب الذي بثته المليشيا في ارجاء ود مدني. بينما انتشرت في الوسائط الاجتماعية الاسئلة والطلبات حول توفر وسائل منع الحمل بعد الاغتصاب والوقاية من الامراض المنقولة جراءه. وثقت التقارير بشكل مؤكد ستة حالات اغتصاب جنسي من قبل افراد مليشيا قوات الدعم السريع، بينما وصل عدد التقارير عن الحالات غير الموثقة الي أكثر من 130 حالة ولا تزال تتزايد. أما وكالات الامم المتحدة، فقد اكتفت بعرض الاحصائيات الاولية واعلان تعليق جميع العمليات الانسانية الميدانية في الولاية وخارجها ايضاً.
سقطت مدني في يد المليشيا في 18 ديسمبر، وأصدرت القيادة العامة للجيش السوداني يوم الثلاثاء 19 ديسمبر بيان عن ملابسات سقوط ولاية الجزيرة في يد المليشيا وقالت ان الفرقة الاولى مشاة الموكلة بحماية المنطقة قد انسحبت من مواقعها وانها ستجري تحقيقاً لمعرفة الاسباب والملابسات التي ادت لانسحاب هذه القوات. ما يغيب على قيادة الجيش وهي تترنح في عجزها الفاضح، ان التحقيق المطلوب ليس في مجرد انسحاب قواتها من مدني، بل هو في ملابسات الدوامة التي قادت اليها البلاد منذ انقلابها بمعية مليشيا قوات الدعم السريع في 25 اكتوبر 2021. فكل ما يحدث الان هو نتيجة مباشرة لقطع مسار التحول المدني الديمقراطي للفترة الانتقالية التي تلت خلع الطاغية البشير، والعودة لاستخدام السلاح في مخاطبة الخلافات السياسية. كان انقلاب 25 اكتوبر 2021 هو قطعة الدينمو الاولى التي بدأت الانهيار الشامل الذي نشهده الان في السودان. إن ما يحدث الان في ارض السودان الذي تستبيحه المليشيا وتقف فيه مؤسسة الجيش عاجزة عن اداء دورها الاساسي في الحفاظ على امن البلاد والمواطنين، يعيد التأكيد على ضرورة اصلاح المؤسسة العسكرية في السودان واستعادة مهنيتها وفاعليتها لتصبح قادرة على اداء مهامها بفعالية بدلا من هذا العجز المعيب الذي نشهدع الان، وقد كان التدافع حول هذا المطلب الذي ظلت قيادة الجيش ترفضه وتراوغ حوله هو السبب الرئيسي للصراع السياسي الذي سبق الانقلاب وقاد اليه، وهو نفس المماطلة والمراوغة التي مارستها مليشيا الدعم السريع بعد الانقلاب. إن اولئك الذين لا زالت تعمي أعينهم الايدولوجيا وبقايا امتيازات العنف السياسي التي نالوها في حماية نظام الأخوان المسلمين الذي اسقطته ثورة السودانيين في ابريل 2019، هم الذين قطعوا الطريق الي المستقبل الافضل الذي يتشارك بناءه كل اهل السودان، وقادونا بشكل مباشر وغير مباشر الي محرقة هذه الحرب المدمرة.
اما قادة الفصائل المدنية المنطوية في تحالف قوى الحرية والتغيير فقد فشلوا للمرة المليون، في الانحياز للسودانيين في خضم معاناتهم. كشف الهجوم الاعلامي ومحاولة التشتيت الاعلامي وتغيير وجهة الخطاب الذي قامت به غرفهم وكوادرهم الاعلامية على الدعوات لايقاف هجوم الدعم السريع على مدني وولاية الجزيرة عن تواطأهم المضمر مع مليشيا قوات الدعم السريع! فيما اندفع قادتهم لتبرير جرائم الدعم السريع بالحديث عن انتهاكات الجيش وهو ما اصبح استراتيجية مفضوحة في استخدام الماذاعنيات (Whataboutism) لتبرير فاشية المليشيا. اندفع ياسر عرمان، رئيس فصيل الحركة الشعبية المنضوي في الحرية والتغيير في الحديث عن اعتقالات تقوم بها قوات الجيش على اسس اثنية وجغرافية في مدني، في خضم الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها قوات المليشيا الغازية، مستنداً الي خطاب مزور امر بالاعتقالات من والي ولاية الجزيرة تم تداوله في الوسائط الاجتماعية في اوساط مؤيدي المليشيا ولكن سرعان ما كشف مركز جهينة للتوثق من الاخبار عن انه مزور. ولكن بالرغم من ذلك فضل ياسر في المشاركة في حملة التضليل صناعة الواقع الافتراضي البديل الذي يحاول تصوير المليشيا كفاعل خير يقاتل من اجل العدالة والحكم المدني! فيما فضلت قيادات اخرى من الحرية والتغيير تبني خطاب المليشيا بتبرير هجوم المليشيا على ود مدني بزيارة قائد الجيش البرهان لها وتصريحاته هناك، او الحديث عن قصف الجيش على مناطق في دارفور. لم يستطع كل هولاء القادة (المدنيين) حتى الان التعامل بصدق مع حقيقة ان هذه الحرب تدور بين طرفين سيئين وان الانتهاكات لا يجب ولا يمكن تبريرها بالانتهاكات. وان الموقف الحقيقي ضد الحرب لا يجب ان يتبنى محاولة صرف النظر عن ما يحدث من احد الاطراف بالاصرار على مقارنته بالاخر. كل هذه الحرب سيئة وكل اطرافها سيئون. ومحاولة تبرير جرائم المليشيا الفاشية بأي امر كان، هو مشاركة مباشرة في الجريمة تجعل اصحابها لا يختلفون في شيئ عن اولئك الذين يحملون السلاح. إن القيادات المدنية التي تحتفي الان بالذكرى الخامسة لثورة ديسمبر المجيدة والتي اندلعت في 19 ديسمبر 2018، عليهم ان يتذكروا أن الثورة كانت بالناس ولاجل الناس ولن يمثلها من يتجاهل ما يحدث لهم من معاناة وضدهم من جرائم في خضم هذه الحرب المأساوية حتى وان علا صوته او ارتفع صخب ادعاءاته. لن تحملكم بنادق المليشيا الي مقاعد الحكم فوق جماجم شعبكم، وإن فعلت، فلن تكونوا سوى حاشية موظفين للزينة في خدمة الفاشي.
هجوم المليشيا على مدني وسيطرتها على ولاية الجزيرة وهي منطقة كانت امنة مسبقاً للنازحين، هو مؤشر خطر على إتساع دائرة الحرب. فالطريق الان اصبح مفتوحاً لهجوم المليشيا – والتي لا يعوزها على ما يبدو الامداد بالسلاح والذخيرة والمقاتلين- على ولايات شرق السودان (القضارف، كسلا، والبحر الأحمر)، وهي التي ترتبط بواقع جيوسياسي معقد مع دول في المنطقة تشهد توتراً عالياً وبالاخص (ارتيريا واثيوبيا). هجوم المليشيا على شرق السودان قد يدفع ارتيريا للتدخل العسكري في جانب الجيش وهو ما قد يدفع اثيوبيا ايضاً للتدخل في اتجاه مضاد. ولن يعوز كلاهما التبريرات، فاللغة سمسم الكاذبين الوفير، وخصوصا في المساحة التي تتداخل فيها المصالح السياسية والاقتصادية والروابط الاجتماعية. سيحول هذا الكارثة في السودان من مجرد حرب اهلية طاحنة الي مركز انطلاق لحرب اقليمية مدمرة، ستؤثر على الاقليم والعالم لفترة طويلة.
قام مالك المليشيا محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي بإعلان ابوعاقلة محمد احمد كيكل كقائد عسكري للمنطقة. وكيكل مهرب وقاطع طريق معروف وتاجر سلاح كان ينشط في سهول البطانة شرقي ولاية الجزيرة. اعلن كيكل في عام ٢٠٢٢ تشكيله لمليشيا عسكرية باسم درع السودان، بهدف دعم انقلاب الجيش والدعم السريع ضد المدنيين بعد ان اشتركا في اسقاط الحكومة المدنية الانتقالية في ٢٥ اكتوبر من العام الذي سبقه. قام كيكل ومليشياه باعلان الانضمام الي قوات الدعم السريع بعد اندلاع هذه الحرب، وهو ما اطلق يده كقائد ميداني للمليشيا في ممارسة النهب والترويع كما يشاء وتولى قيادة الهجوم على ود مدني، وتمت مكافأته بعد ذلك بمنحه عطية كرسي قيادة المنطقة. فيا لهذه المدنية والديمقراطية التي تأتي في ركاب قطاع الطرق وتجار السلاح!
المصدر: مجلة المجلة