لقمة اخيرة ..
ابراهيم احمد الحسن
كان يبعد يده عن الصحن قليلاً ثم يصيح بصوت قوى تتفلت بين جنباته ضحكات لا تلبث ان تنفجر قهقهات ، ثم ينهض واقفاً ليكمل ضحكته وهو يرى الاشتجار بين عباس وقاسم في ذروته وقد تحول من لقمة في (الصحن) الي مغالطة في كرة القدم ايهما اجدر بالفوز هذا الفريق ام ذاك ويتشعب النقاش الي مكواة حبيبة تتخللها ضحكات لا تنتهي الا حين ينتهي زمن ( الفطور ) ونعود الي قاعات الدرس .
كنا -أنا-وهو نشرف علي اعداد صحني ( البوش ) ، وما كان هو الا هشام صديقنا الجميل الذي رحل باكراً، وكنا نحرص ان نحشد في ( صحني البوش ) كل المكونات التي تصل اليها ايدينا من فول وجبنة وصلصة وليمون وزبادي وساردين وبصل وتوم وشمار وزيت سمسم ، وشطة بانواعها الخضراء والحمراء ، الجافة المسحونة والطازجة المخلوطة ، وهنا تتمايز المجموعات واحد الصحنين قد شحنته ( شطوط السودان -ان صح الجمع ) واحالته الي الوان طيف يجتمع فيه الاخضر مع الاحمر ،والجاف مع الطازج ، والاخضر واليابس وربما حتى الحابل بالنابل ، والصحن الاخر به كل المكونات -ما عدا الشطة -.
ويا للعجب فكل مجموعة كانت تتكون من ستة طلاب واحيانا كثيرة تزيد قليلاً بسبب دعوات مبذولة الي ضيف يجلب معه البركة والسرور . او حتى عابر سبيل كذلك الرجل الجميل الذي اوقف سيارته قبالة الدكان ، ترجل منها ثم طلب منا افساح مكان له ليأكل لقمة هنية مع مجموعة من الشباب النضر ، اختار الرجل (قروب الشطة ) بعد ان اوضحنا له الفرق بين المجموعتين ، جلس يأكل باستمتاع حتى كاد الصحن ان يفرغ ،ولم نجد من الوقت ما بكفي لنشرح له قواعد لعبة (البوش) ، وما ان صاح هشام (لقمة اخيرة ) حتى وجد الرجل نفسه ينازع فيها ثم يفوز ويشارك هشام الضحك والقهقهات.انهزام عباس وقاسم معاً في معركة اللقمة الاخيرة لم يمنعهما من الشجار قبل ان يلتفت عباس الي الرجل العابر ليقول له بسخريته المعهود وهو يشير اليه وبقايا زيت السمس تلمع في يمناهُ: ( دا جاء من وين دا ؟ ) . ضحك الرجل طويلاً ثم مضى في حاله مع وعد مبذول بإعادة التجربة ، لوح لنا من سيارته ثم انطلق في الطريق . ذهبت رفقة هشام الي (سيد الدكان ) لدفع الحساب ، قال لنا وابتسامة عريضة يشرق بها وجهه حسابكم مدفوع ، كنا نشاغب الرجل ونمازحه كثيراً وظننا ان ما قاله هو واحدة من هجمات مرتدة، مبيتة لمشاغباتنا التي لا تنتهى ولكن الرجل كان جاداً في كلامه فقد دفع الحساب من شاركنا الطعام وفاز باللقمة الاخيرة .
ما احتجنا الي كثير نقاش لنقرر اين سيذهب المبلغ وقد جمعناه بحب، فقد قرر هشام وانصعنا له بأن يذهب المبلغ لمن يستحق وبالفعل صار المبلغ صدقة جارية في ميزان حسناته.
أضحت مجموعة البوش ودراما (اللقمة الاخيرة ) من الشهرة بمكان حتى اكتشفنا ان هذه الدراما البريئة اضحى لها متابعين ينتظرونها علي اخر من الجمر علي قارعة الطريق وهم يرون شجار عباس وقاسم عقب انتهاء جولة البوش على (اللقمة الاخيرة ). مرت الايام واضحت البوش ، صحيفة حائطية يصطف القراء لقراءتها مزدانة بالصور الملونة و التعليقات الفنانة والمواضيع الخفيفة وكان من فاته الاستمتاع بدراما ( اللقمة الاخيرة ) كان له ان يشاهد ويقرأ بالصورة والحرف والكلمة تلكم الروح الجميلة من خلال الصحيفة الحائطية الرائجة والتي كان اسمها (فوتو بوش ).
نقلنا روح البوش الاحتفال والفرح واللمة و ( العيزومة) عند الشعب السوداني من اقصاه الي اقصاه الي لمة مصغرة للسودان اجتمع فيها طلاب تلاقوا عند قاعات الدرس ثم التفوا حول صحن الطعام ، فصار بينهم جسور من الملح والملاح، صاروا اصدقاء وجريدة حائطية . لم تك الصدفة وحدها هي التي جعلتهم من مناطق شتى في جغرافيا الوطن الكبير ، فقد كانت كردفان حاضرة أنيقة ، بحس مرهف وجمال لا تخطئه عين ، وكانت الشمالية حاضرة بسموق نخيلها وببذل وتفان يتبدى للعيان بلا غياب، اما دارفور فقد كانت تحضر كل يوم بخيلها وخيلائها بسماحها وجلائل اعمالها تضيف كل يوم جديد وتثري الساحة ، والشرق كله كان يأتي بكل ما فيه من جمال ونضار وعزة نفس واباء وشموخ وقد كانت الجزيرة كعادتها دائماً خضراء تجلب الخير والبركة والمحبة كانت هناك لا تبارح بذكاء وقاد وكريم وفاد والجنوب الحبيب كان حاضراً ب ( توماس ) (وجون) بكريم الخصال والصرامة الباذخة والشمم والصدق الشفيف ، اما الخرطوم قلب السودان وعاصمته القومية فقد كانت حاضرة بحبور وحلو معشر ( اولاد بحري ) وكانت تجلو نقاش الوتر والكفر بامدرمانها العريقة وتجلب للبوش المرح وعقلها (المليان ثقافة )، ثم تجلس تتأمل الجمال المترف بزهو السودان كله، تتأنس وتسمر ثم تضحك بنفس راضية مرضية عند مقرن النيلين . هكذا هو السودان عرفناه عند البوش الكبير لاهله و بصحن البوش الصغير ل ( اولاد دفعة ) و ب (فوتو بوش ) صحيفة حائطية انيقة وجميلة تنشر الخبر والثقافة ، تألف وتتآلف .
اللقمة الاخيرة لم تولد عند صحن بوش (الاولاد دفعة ) فحسب ، بل هي فرحة تكتمل بها (اللمة) وتراكم مخزون ثر من الاحداث وتؤرخ لها في الذاكرة ،نسترجعها بعد سنين عدداً ، نفرح بها ثم نكتبها عند (خم الرماد ) باللقمة الاخيرة عند آخر فطور ما قبل رمضان ، ثم ننشرها علي اعتاب غياب شمس أول يوم في رمضان 1444 تترحم بها علي من رحلوا من الجميلين من (اولاد الدفعة ) الذين مضوا بعد اللقمة الاخيرة في دنياهم ، عبروا بعدها الي جنات عرضها السموات والارض ، نحي بها الاصفياء الوفياء من اهل السودان كافة ونقول لهم (تصوموا وتفطروا علي خير ) وكل عام وانتم بخير .