بسم الله الرحمن الرحيم
إلى أين يا أهل السودان
“سنسمه على الخرطوم(16)إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة….(17)” القلم.
د.إدريس يوسف أحمد
كثرت الفتن والإبتلاءات والكوارث والدمار والبطش الشديد والخوف والهلع ونقص في الأنفس والأموال والثمرات والنزوح واللجوء خلال أشهر الطامة الكبرى ، كنتيجة مباشرة لتفاعلات الفتنة الكبرى التي حدثت في السودان بتحطيم لبنيتها التحتية وقتل للأنفس بطريقة بربرية ووحشية دون مخافة الله وهتك للأعراض وإخراج الناس من منازلهم عنوة ونهب للمتلكات وهتك للنسيج الإجتماعي الذي إشتهر به أهل السودان؛ ومناداةبأفكار شتي شاذة وباطلة تنادي بالتفتت والتشتت والإنفصال وبإتهامات بعضنا البعض بصفات لا تشبه أهل السودان بأي حال من
الأحوال، والمعروفون بالطيبة وعفة اللسان وصدق القول ودماثة الخلق والكرم والأخوة والنخوة والتكافل الإجتماعي؛ فأصبحنا كلنا قبليون وعنصريون وجهويون وإستعلائيون وإنفصاليون وإنتهازيون وعملاء وممارسون لخطاب الكراهية دون أدنى واعظ ديني، الذي انتشر بيننا كنار الهشيم، حيث لا نستطيع أن نبرئ أي منا من أي مما ذكر أعلاه بأي حال من الأحوال .
لقد نسينا تاريخنا الذي يجمعنا في سوداننا الذي هو منبت البشرية ومهبط الاديان السماوية ومنشأ الحضارات والذي شهد كذلك قيام اول دولة مدنية في العالم هي دولة كوش، الذي ورد ذكرها في الكتب الدينية وفي كتب التاريخ بجيشها القوي المهاب المعروف تاريخيا برماة الحدق، ودولة مروي العظيمة التي تمددت سيطرتها حتى آشور في العراق وترهاقا ملك جامع الخيرات الذي صان مباني القدس القديم بفلسطين وبعانخي وتاريخ الفراعنة الذي لا ينكره أحد. تعرضت دولة مروي للكثير من الإعتداءات المرتدة من الدول التي أخضعتها حتى أسقطها أكسوم ملك الحبشة في القرن الثالث الميلادي، الذي ذكر في تفاصيل مذكراته حول إسقاط دولة مروي، أن القبائل التي حاربته للحفاظ على وحدة دولة مروي كانت النوبة الحمر أهل الشمال الآن والنوبة السود أهل جبال النوبة الآن والفور أهل وسط دارفور الآن والداجو (أهل جنوب دارفور الآن والبجة أهل شرق السودان الآن والميدوب أهل شمال دارفور الآن، وعدد من القبائل الأخرى المعروفة، حيث إنفض سامرهم جميعا بعد سقوط مروي، بنزوح كبير جدا لهذه القبائل من مروى إلى الجبال الحصينة في مختلف أصقاع السودان الحالي.
والسودان في التاريخ الوسيط، من بعد سقوط دولة مروي، كان محكوما حكما فدراليا، التي مارسها أهل السودان في الحقب التاريخية القريبة بعد سقوط دولة مروي ، وهي مملكتي علوة والمقرة في الشمال وسلطنة دارفور الإسلامية في الغرب والسلطنة الزرقاء في سنار في الجنوب ومملكة تقلي في جبال النوبة والممالك العديدة في شرق السودان ووسطه والمكوك والنظارات والمشيخات …. الخ، والمهدية كأول محاولة لجمع شمل أهل السودان من بعد مروي. وجاء الإنجليز ليجمعوا كل أشكال الحكم هذه في دولة فدرالية سموها السودان، علما أن السودان القديم كان يطلق علي كل المنطقة الممتدة من البحر الأحمر شرقا وحتى المحيط الأطلسي غربا لسكانها السود، أما مصر القديمة في التوراة والقرآن فهي السودان الآن، لقوله تعالى على لسان فرعون موسى (ونادى فرعون في قومه* قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون) والتي كانت منها وادي هور ووادي الملك ووادي المقدم والنيل الأبيض والنيل الأزرق ونهر عطبرة ، التي كانت تجري حينها كلها طوال العام.
إن مشروع التجمع العربي للإستيلاء على حكم السودان في عام 2020م التي تضمنتها وثائق قريش العديدة التي تناولتها وروجت لها وسائط الإتصال العنكبوتية العديدة بكثافة، بدأ بوثيقة قريش 1 السياسية التي صدرت عام1987م التي تضمنت العديد من المعلومات المغلوطة، ثم وثيقة قريش 2 التي تحدثت بغبن شديد أن الجعليين والدناقلة والشايقية قد حالوا بينهم وبين حكم السودان لمدة تناهز القرن، وأنهم أصبحوا هجينا عرقا وثقافة جزءا من النسيج النوبي. النص ((وكما تعلمون فقد حال الجعليون والدناقلة والشايقية بيننا وبين حكم السودان لمدة تناهز القرن ، وهم مهما تدثروا بثياب العروبة ، هجين أصبح عرقاً وثقافة جزء لا يتجزأ من النسيج النوبي المتمصر، وستظل تلك الفئة تتشبث بحكم البلاد إلى الأبد، إذ بلغنا أن أطراف هذا الثلاثي قد أقسموا مؤخراً على أن تبقى السلطة تداولاً بينهم.))، وإستدلوا في حديثهم بوثيقة (مؤتمر تنمية الولاية الشمالية الكبرى في عام 1994م )، حيث ذكروا أن هذا الثلاثي قد أقسم أن تبقى السلطة تداولا بينهم والتي أشارت كذلك إلى أن تستمر السيطرة على السلطة والثروة إلى عام 2050م على أقل تقدير تداولا بينهم.
كما ذكرت وثيقة قريش 2 أن موعد التجمع العربي لحكم السودان هو عام 2020م وأن المرحلة الأولى من هذا الهدف هي حكم ولايات الغرب الستة كما ورد في النص ((يمر قريش بمرحلة مخاض حرجة ، والمطلوب من الجميع ، وخاصة الطريفين ، التسامي على الإنتماءات الفكرية والطائفية في سبيل تحقيق الأهداف النبيلة والمحافظة على الإنجازات التي تحققت حتى الآن ، وضرورة العمل الدؤوب لبلوغ الغايات التي نراها قريباً عبر الإلتزام بالتالي:
أ – الموعد العام 2020 على حد اقصى ، ب – الهدف قريش 20 ، ج – الهدف المرحلي: ولايات الغرب الستة، د – الخطط والبرامج والوسائل))
كما أن الحركة الإسلامية التي إستولت على السلطة من خلال إنقلابها العسكري عام 1989م، كانت إستراتجيتها هي التغييير الشامل للديمغرافية السكانية والجغرافية وتغيير هياكل الحكم الأمنية منها والمدنية والتحكم على كل مفاصل الدولة، لاسيما السيادية منها ليحكموا البلاد إلي الأبد، وقد قالوها في مناسبات عدة ((أنهم لن يسلموها إلا لسيدنا عيسى عليه السلام)) وكذلك قالوا ((نحن تكينا سلاحنا في القصر العايز يشيلنا يتكي سلاحه في القصر))، وكذلك قالوا (والماعجبه يلحس كوعه)! حيث إرتكزت إستراتيجيتهم في إضعاف القوات المسلحة والأجهزة الأمنية المختلفة وإستبدالها بإنشاء قوات بديلة موازية لها، والتغلغل في مفاصل الخدمة المدنية وإنشاء قوات خاصة لمحاربة معارضيها من شعبها بهم والتنسيق مع بعض كيانات التجمع العربي بتسليحها، التي منها قوات السلام وقوات حرس الحدود وقوات الدعم السريع، التي كانت من نتائجها المباشرة الإبادة الجماعية في دارفور التي بدأت في عام 2003م وما زالت.
إن الكثير مما ورد في التقرير عن تنمية الولاية الشمالية الكبرى في عام 1994م، الذي روج له بكثافة في مجموعات الشبكات العنكبوتية الإليكترونية، تلخصت في مقدمتها في ((أن أبناء الشمالية قلة بالنسبة لبقية جهات السودان، وانها فقيرة من حيث الموارد الطبيعية وأنه لولا النيل لما بقيت لهم باقية، لذا لابد لهم من السيطرة الكاملة على السودان من حيث السلطة والثروة مهما كانت التكلفة، وذلك حتى عام 2050 على أقل تقدير)) وتلخصت محتواها كذلك في: ((السيطرة الكاملة على الجيش والشرطة والأمن وعلى الإعلام بكافة أنواعه، مرئي، مسموع، ومقروء وعلى الموارد والثروات، وخصخصة جميع المؤسسات الحكومية الإنتاجية لصالح منسوبيها. وإضعاف التعليم العام، وكذلك الجامعات بعدم تأهيلها فنيا، وإثارة النعرات القبلية وضرب القبائل بعضها ببعض، واستغلال عرب السودان، خاصة عرب دارفور وكردفان)). إننا نعتقد أن هذه الوثيقة لا تمثل معظم أهلنا في الشمال الذين عرفناهم وتعاملنا معهم، بأي حال من الأحوال، ولكن لم نجد لها نفيا، مع بروز مأشرات تطبيق بعض بنودها في أرض الواقع بحكم استحوازهم للسلطة.
تلخصت البيانات المتضاربة هذه الأيام، من بعد الفتنة الكبرى التي أحلت بالسودان، فمنا من ينادي بالإنفصال، سيما بعض من أهلنا من الشمالية ، وقد رفضه أهل السودان بشعار أن “السودان للسودانيين” في عام الإستقلال 1956م، فلماذا يستسلم الإنفصاليون من بعض السودانيون وقد تشكلت الدولة الفدرالية السودانية الآن؟ ومنا كذلك من رفع شعار العنصرية والجهوية عاليا، وقد تسلمت النخبة المتعلمة منا مسؤولية حكم السودان الواحد الموحد من المستعمر، فمنهم من مازال متمسكا بلواء هذه المسؤولية عاليا بوحدة السودان وشعبه مستشعرين بعظم المسؤولية الكبيرة التي على عاتقهم، حتى يبلغ أهل أقاليم السودان الأخرى كلهم أشدهم بالتعليم، فيطالبوا بحقهم في المشاركة الحقيقية في الحكم على أساس ديموقراطي حر وبحكم فدرالي.
أولم يدرك الشعب السوداني الآن وبعد الطامة الكبرى أن تكلفة الجهل عشرات أضعاف تكلفة التعليم العام الذي أضعفناه ؟!. اليس ماتم في الطامة الكبرى التي حدثت في العاصمة والأقاليم خلال الأشهر القليلة الماضية، من تحطيم للبنية التحتية لمؤسسات الدولة وللقطاع الخاص ونهب للممتلكات ، التى لا تقل عن عشرات التيريليونات من الدولارات لإعادة إعمارها ؟!. إضافة إلى قتل للأبرياء من المواطنين ونهب ممتلكاتهم، التي لو أنفقنا عشرها أو أقل من عشرها في التعليم العام لما (حدث ما حدث) !!.
ولكن من المسؤول عن هذا كله؟ النخبة التي تعلمت وإستلمت السلطة من الإستعمار، أم من؟ لاشك أنهم النخبة المتعلمة من أبناء السودان الذين تسلموا السلطة من الإستعمار وليس المواطنون العاديون الذين لم يكن لهم لا حول ولا قوة!.
ما نريد أن نؤكده أن الحكم لا يدوم لمسببي الفتن ولا للظالمين ولا للفاسدين ولا للسارقين لثروات بلادهم، ولكن يدوم للصالحين، دون إعتبار لمعتقداتهم أوإنتماءاتهم، لقوله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء 105.
إن السودان بشكله الذي تركه الإنجليز، تطور وتقدم تقدما ملحوظا في مجالات بناء الهياكل المؤسسية للدولة الحديثة والتوحد والتصاهر والتمازج المجتمعي، وتأسيس دولة ستكون لها شأنها وسطوتها وقدرتها على البقاء أكثر مما سبق. حيث تكونت الشخصية والهوية السودانية المعروفة بها اليوم!
إن الذين قالوا أنهم (تكوا سلاحهم في القصر) فإن القصر قد أصبح في خبر كان؛ وإن الذين خططوا (لحكم السودان في عام 2020م) فهذا العام قد مضى وما هو آت آت؛ والذين أرادوا (أن يحكموا السودان حتي 2050م) فقد هلك عني سلطاني!. فأصبحنا وأصبح الملك لله ولمن يعطيه من شعب السودان بثوراته المجيدة.
لذا لابد لنا أن نتخذ العبر من تاريخ حروب الأمم، فإن أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة ستة مليون شخص، قد خرجت قوية ومتحدة في الإتحاد الأوروبي، وأمريكا بعد حروبها الأهلية التي إستمرت لعقود قد خرجت قوية ومتحدة في الولايات المتحدة الأمريكية فسادت العالم، والهند بمسلميها وهندوسيها وبوذيها وبسكانها البليون قد توحدوا في دولة قوية وصناعية مستقرة، وكذلك الصين بسكانها البليون قد اًصبحت دولة صناعية كبرى، واليابان من بعد الحرب العالمية الثانية التي دمرت وضربت هيروشيما بالقنبلة الذرية قد إنتفضت إلى دولة صناعية كبرى، وإستراليا والمهاجرين إليها، الذين قدروا وإحترموا شعوب أستراليا الأصيلة من الأبوريجينس فلم يبيدوهم كما نفعل نحن الآن، بل يمجدوهم في كل مناسباتهم القومية قد بنوا أستراليا الجديدة التي إستقبلت الآلاف من مهاجري السودان الذين ضاقت بهم أرض السودان الفسيحة بما رحبت. فهلا إنتفضنا نحن في السودان وإعتبرنا بتاريخنا التليد وبتاريخ حروب الأمم أعلاه، لنتفق على ميثاق أو دستور جديد نبني به سودان يتجاوز أحداث الطامة الكبري التي حدثت، مسنفيدين من تاريخنا والتنوع الذي نحن فيه ومن مواردنا وثرواتنا التي حبانا الله بها، لنكون رقما بين الأمم، ومقدمين لهم خيراتتا ومتممين لمكارم الأخلاق وقد حبانا الله أيضا برسالاته السماوية.
لذا لا خيار للسودان الآن إلا بشكله الذي نحن فيه، حيث لا مجال في زماننا هذا للدويلات والكيانات الصغيرة، لذا لا مجال للشمالية أن تعيش كدولة منفصلة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، حتى لو تضامنت مع البحر الأحمر (دولة النيل والبحر)، ولن تعيش كما ستعيشها بتمام العزة والكرامة وهي في دولة السودان الحديث، وكذلك دارفور التي ساهمت في تشكيل هذا السودان لاسبيل لها الآن إلا في إطار هذا السودان الكبير، لأنها لن تظل كدولة مستقلة تستطيع أن تدافع عن نفسها من إعتداءات شعوب جيرانها التي كثرت إعتداءتها عليها مؤخرا، وكذلك كردفان دولة مقفلة لا منافذ لها، لن تعيش بكرامة أو تستطيع أن تدافع عن نفسها، وكذلك الوسط وشرق السودان لن تستفيدا من تصدير موارد السودان الهائلة هذه كما تفعل الآن، لأن موانئ التصدير ستتعدد. نقول ذلك وكل أنظار العالم الآن هي في خيرات وموارد السودان التي لا يراها أهلها .
إن ذهاب الجنوب كان خطأ كبيرا يجب ألا يتكرر، فنحن لن نودع الشمالية أبدا كما ودعنا الجنوب، فتاريخه تاريخ السودان أجمع، وكذلك لن نودع دارفور وكردفان والجزيرة والشرق أبدا، كما ودعنا الجنوب. فمرحبا بجنوب السودان في حضن سودان الكونفدرالية الجديد في دولة العلم الحديث ولو بعد حين.
والله المستعان